وصية العالم الجليل موفق
الدين
ابن قدامة المقدسي
في ظل مشاغل الحياة
وتحدياتها والمسؤوليات الكثيرة المُلقاة على عاتق الأغلبية تحتاج أرواحنا ما بين
الحين والآخر إلى قراءة ما يُثبّت قلوبنا ويقوي عزيمتنا ويشحن همّتنا، فلعل وصيّة
العالم الجليل ابن قدامة المقدسي تكون
أشبه برسالة تربويّة إيمانيّة تلامس قلوبنا وتجعلنا نراقب تصرفاتنا ونحاسب أنفسنا
ونفكر بعواقب تقصيرنا ولنتذكر دوماً أن الهدف من وجودنا هو محبة الله ورضاه وأولى
أولوياتنا هو الانشغال بالأعمال الصالحة التي تزيدنا قرباً من الله، فجميعنا نعلم
أنّنا يوماً ما عن الدنيا راحلون فلعلنا نكون في الآخرة بجنات النعيم فائزين.
المبادرة إلى العمل
الدنيا فرصة فاغتنمها واعلم أن هذه الدار هي أمنية أهل القبور فيتمنى
أحدهم أن يسبّح تسبيحة تزيد من حسناته أو
يقدر على توبة من بعض سيئاته أوركعة ترفع في درجاته واعلم أن حياتك محدودة وأنفاسك
معدودة والعمر قصير فلا تضيعه بدون عمل أو طاعة تقرّبك لله تعالى.
نماذج أهل الدنيا
الفئة الأولى هم المجتهدون والحازمون الذين أدركوا أنهم عن الدنيا راحلون
فرفضوا الراحة ولذة النوم وأقبلوا على العمل والطاعة.
وأما الفئة الثانية فهم من اجتهدوا في بعض الأوقات واستراحوا في بعض الأوقات
وناموا وقت النوم.
وأما الفئة الثالثة فلم يُقبلوا على الطاعات بل انشغلوا بالمُلهيات وفضّلوا
الراحة والنوم في كل الأوقات.
فأما المجتهدون فكانوا فرحين بالفوز الكبير وأما المقصرون فندموا وبكوا على
التفريط بأوقاتهم وتحسروا على ماحصلوه من الزاد القليل وأما المفلسون فأيقنوا
أنّهم في العذاب ماكثون.
فلنجتهد جميعاً ولنسعى أن نكون من أصحاب الفئة الأولى الذين قدروا الأوقات
واستغلوها بالطاعات، فألزم قلبك بشكر نعم الله عليك وألزم لسانك بذكر الله والدعاء
والاستغفار وقراءة القرآن وأشغل جوارحك بالطاعات واِنفع الخلق بعلمك.
مفسدات الأعمال
اِحذر من مفسدات ومبطلات الأعمال ومنها:
١- الرياء:
المقصود بالرياء العمل لغير وجه الله والهدف من العمل أن يراه الناس
ويمدحونه أو أن يكون العمل لوجه الله ثم يطرأ عليه الرياء وهذا هو الشرك أصغرالذي
يُبطل العمل، عافانا الله
وإياكم من الرياء ورزقنا الإخلاص.
٢- العُجْب:
المقصود بالعُجْب أن ينظر المرء لأعماله ويغترّ بها على أنها باجتهاده وليست
بتوفيق من الله، فيقع في قلبه الكبر والزهو بعد فعل العمل فيُبطله، نسأل الله أن
يعافينا من العُجب الذي يفسد العمل الصالح.
٣- تحقير المسلم
المقصود بتحقير المسلم هو التكبرعليه واستصغاره والاستهزاء به، فلا يجوز
إيذاء أخاك المسلم لا في
خلقته ولا في ثيابه ولا في كلامه ولا في خلقه ولا غير ذلك، فلا تحقّرنّ مسلماً أو
تظن أنك خيراً منه، فإنّ ذلك ربما أحبط عملك.
٤- مخالفة السنة
والمقصود به أي عمل مخالفاً للسنة ولهدي النبي صلى الله عليه وسلم وطريقته
سواء قولاً أو فعلاً أو اعتقاداً، جعلنا الله وإياكم من التابعين لنهج رسولنا
الكريم.
المراقبة والخشية
● التفكر بنعم الله
سبحانه وتعالى، والحذر من الاستعانة بنعمه سبحانه في المعاصي، والتذكّر بأن الله
مطلع عليك فقد قيل: لاتنظر إلى صغر
الخطيئة، ولكن انظر إلى من عصيت.
● المسؤولية والعواقب
فلنتذكر أنّنا حملنا أمانة أشفقت من حملها السماوات والأرض والجبال، أعاننا الله
وإياكم على أداء كل ما يرضيه وأبعدنا عن كل عمل فيه تفريط بالأمانة.
● فضائل الأعمال ومنها حسن
الخلق والصبر والصلاة على وقتها وبر الوالدين وصلة الرحم والجهاد في سبيل الله.
● الدعاء بخشوع
وتضرع وبكاء
● مناجاة الله سبحانه
وتعالى والاعتراف بالتقصير في
طاعته سبحانه وطلب عفوه وستره ورحمته.
● طلب الحاجة فمن كانت له
حاجة عند الله فليحسن الوضوء ويصلي ركعتين لله ثم يثني عليه ويصلي على النبي صلى
الله عليه وسلم وليقل دعاء صلاة الحاجة ويذكر حاجته.
● الاستخارة يلجأ فيها
العبد إلى ربه ويطلب منه أن يختار له الخير في أموره متوكلاً عليه وواثقاً بتدبيره
فيصلي ركعتين لله عز وجل وليقل دعاء الاستخارة.
● أولياء الله الذين
يحبهم ويحبونه، أولئك الذين أوقفهم الله على بابه وعلّق قلوبهم بمحبته وشغل لسانهم
بذكره وجوارحهم بطاعته، فلا تتعلق قلوبهم بدنيا ولا بغيرها.
● جوف الليل فتيقّظ في
ساعات الأسحار عند نزول الجبار وأحضر بقلبك قول العزيز الغفار هل من سائل فأعطيه؟
هل من داع فأستجيب له؟ هل من مستغفر فأغفر له؟
لمحة عن المؤلف
اسمه موفق الدين أبي محمد عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي الجماعيلي ثم الدمشقي أحد أئمة
وشيوخ المذهب الحنبلي، ولد في جماعيل (إحدى قرى مدينة نابلس سنة ٥٤١هجرية)
ونشأ في أسرة معروفة بالعلم والصلاح ثم هاجر مع أهله إلى دمشق في سن العاشرة حيث تتلمذ على يد كبار مشايخ دمشق وأعلامها فنبغ واستطاع
أن يحفظ القرآن الكريم ومختصر الخرقي في الفقه ثم رحل إلى بغداد وأقام فيها أربع
سنوات لطلب العلم، ثم عاد إلى دمشق واجتهد في علمه وأصبح إماماً في الفقه والفُتيا
عارفاً بالحديث وعلوم أخرى، ووصفه الذهبي بأنه من بحور العلم وأذكياء العالم
ولقّبه (شيخ الإسلام)، وله ما يقارب خمسين مؤلفاً في علوم القرآن والحديث وأصول
الدين والفقه والتاريخ. وقد قيل في وصفه أنّه كان حسن الخلق ورقيق القلب وذكياً
وورعاً ومتواضعاً وجواداً ومحباً للمساكين وهيّناً ليّناً وبسّاماً وبشوشاً وذو
هيبة ووقار وكأن النور يخرج من وجهه، تُوفي يوم الفطر سنة ٦٢٠هجرية، ودُفن في دمشق بجبل قاسيون وقد شيعته دمشق بجنازة حافلة، رحم الله
ابن قدامة المقدسي وجعله من أهل الفردوس، وأعاننا الله جميعاً على أن ننتفع بتلك
الوصية ووفقنا الله وإياكم لما يحبه ويرضاه من القول والعمل ورزقنا وإياكم نية صادقة وهمة عالية.
تم بفضل
الله تسليط الضوء على أثمن الوصايا في الكتاب الأكثر من رائع { وصية العالم الجليل
موفق الدين بن قدامة المقدسي(صاحب المغني) }- تحقيق محمد رمضان خير يوسف - الطبعة
الأولى ١٩٩٧
بقلم :
م. إيمان عيسى